بقلم: الزهراء السيد*
من رَحِم المعاناة يُولدُ الأمل، ويأتي اليسر من قلب العسر، ويشرق نور الصباح بعد عتمة الليل، وينشرح القلب بعد تراكم الظلمات، ويزيد الإيمان بعد فتورِه، وتزهر الأوراق بعد سقوطها، وتستمر الحياة رغم كَبَدِ العيش، ويظل الإنسان متمسكًا بشعاع الأمل؛ لينيرَ له الطريق ويرشده إلى النجاة، فالأمل هو بوصلة الحياة وزاد العاملين.
هكذا حدَّثنا فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، رئيس مجلس حكماء المسلمين، خلال جلسة شبابيَّة على هامش ملتقى البحرين للحوار عن التسلُّح بالأمل ومواصلة السعي والعمل، رغم تحديات الحياة.
التقى فضيلة الإمام في هذه الجلسة عددًا من الشباب البحريني ووفدًا من شباب منتدى صنَّاع السلام في حوارٍ مفتوحٍ بحضور سمو الشيخ ناصر بن محمد آل خليفة، ممثل جلالة ملك البحرين للأعمال الإنسانية وشئون الشباب، في قصر الصخير للحديث مع الشباب والاستماع إلى أسئلتِهم وتطلعاتهم.
تحدَّث معنا فضيلة الإمام من قلبه كما يتحدَّث الأب مع أبنائه والجد مع أحفاده، فلامست كلماته قلوبنا، وتمنيت ألَّا ينتهيَ هذا اللقاء وأن يطولَ وقت اجتماعنا مع فضيلته، أصغيتُ إلى حديثه ونصائحِه الحكيمة بإنصاتٍ، فوجدتُ في كل كلمة حكمةً، وفي كل حكاية عظةً ونصحًا، وددتُ في قرارة نفسي أن تستمرَّ وتتكرر هذه الجلسةُ مع فضيلته لننهلَ فيها أنا وزملائي وشباب الأمة من بحر علمه وحكمته، ونسترشد بتوجيهاته وخبراته.
تحدَّث الإمام في موضوعات شائكة يهتم بها الشباب العربي؛ مثل الحفاظ على الهوية العربية الإسلامية في ظل انتشار موجات الانفلات الأخلاقي، والدعوات المخالفة لثقافتنا وديننا، سأله أحد الشباب سؤالًا مهمًّا وهو: أن الحياة ليست وردية ومليئة بالأشواك، فكيف نتحلَّى بالأمل مع وجود الكَبَد؟ فكان رد الإمام وافيًا: لولا الكَبد ما وُجِد الأملُ. حقًّا، ما خُلق اليأس إلا لنعلمَ بوجود الأمل، وما خُلق الحزنُ إلا لنعلم بقيمة الفرحِ، ولولا صوتُ الأمل بداخلنا ما استمرَّت الحياة. فما أضيقَ العيش لولا فُسحة الأمل!
انتهى لقاؤنا مع فضيلة الإمام ولم ينته عظيم أثره في نفوسنا، فقد هوَّنت كلماته الحكيمة كثيرًا على قلبي المُثقل، وجدَّدت بداخلي ينابيع الأمل، وذكَّرتني بعظيم أجر الصبر على تحديات النفس والحياة {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}.
تعرَّفت أيضًا في هذا اللقاء على مجموعة من الشباب البحريني المتميز، وكانوا خير مثال لحسن الاستقبال والترحاب والبشاشة والضيافة، وهذا ليس غريبًا على شعب مملكة البحرين الأصيل، تلك المملكة التي أدهشتنا بهدوئها، وجمال طبيعتها، وناطحات سحابها التي تزيِّن سماء المدينة.
أسهبتُ في الحديث أولًا عن هذا اللقاء؛ لأنه الأقرب إلى قلبي، ولكن اسمحوا لي أن أتحدثَ أيضًا باستفاضةٍ عن شرف دعوتي لحضور “ملتقى البحرين للحوار: الشرق والغرب من أجل التعايش الإنساني، ودوره في نشر قيم التسامح والتعايش”.
كان من فضل الله ونعمتِه أن منحني الفرصة لحضور ملتقى البحرين للحوار على أرض المنامة، وأن أشهدَ انطلاق هذا الحدث التاريخي، كما شَهِدت انطلاق مؤتمر الأخوَّة الإنسانية وتوقيع وثيقة الأخوة الإنسانية بأبوظبي في فبراير 2019، حضر ملتقى البحرين أكثر من 200 قائد ديني من جميع أرجاء العالم. وتحدَّث الحضور الكرام عن الحوار بين الأديان، وأهمية الأخوة الإنسانية في بناء السلام العالمي، ودور قادة الأديان في نشر قيم التسامح.
كان هذا اللقاء تمثيلًا حيًّا لقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]، فقد خلقنا اللهُ من أجناس وأعراق وجنسيات مختلفة لبناء جسور من التعارف فيما بيننا، ولو أراد الله سبحانه وتعالى أن يخلقنا متشابهين لفعل ذلك {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}، ولكن هذا الاختلاف هو أصل ثراء الثقافة الإنسانية وسبيل التعارف بين الناس.
في اليوم التالي، استلمت دعوةً لحضور الجلسة الختامية للملتقى بميدان صرح الشهيد؛ حيث استمعت إلى كلمة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، ملك مملكة البحرين، وكلمة فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، رئيس مجلس حكماء المسلمين، وقداسة البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، وما أشبه الليلة بالبارحة، فهذا اللقاء التاريخي بين فضيلة الإمام وقداسة البابا يذكِّرنا بمؤتمر الأخوة الإنسانية وتوصيات الرمزيْنِ في ذلك اليوم وتوقيع الوثيقة الأهم في التاريخ الإنساني الحديث من أجل التعايش السلمي.
أرسل فضيلة الإمام خلال كلمته رسائل قوية ومباشرة للغرب والشرق، تحدَّث فضيلته عن الصراع الذي تعيشه الإنسانية اليوم وغياب العدالة الدولية، وشعرتُ بالاعتزاز عندما أشار فضيلتُه إلى حاجة الغرب المُلحة لروحانيات الشرق، ولتاريخه الذي يضربُ بجذوره إلى أكثر من خمسة آلاف عام، ولدياناته التي تُثري الثقافة الإنسانية، وتُعلي من صوت الحكمة والحوار باعتبارها بديلًا عن الصراع والمادية.
في كل مرة أستمع فيها إلى كلمةِ فضيلة الإمام وأشاهد مثل هذا الإخاء والتعايش بين الناس على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، يغمُرُ قلبي الامتنانُ لوجود الخير والأخلاق النبيلة في الحياة، فعلى الرغم من الأزمات الراهنة التي يشهدها العالم والفساد الأخلاقي الذي ينتشر كالنار في الهشيم، إلا أنَّ بصيص الأمل ما زال يضيء لنا الطريق، والخير باقٍ لا محالة «الخيرُ في أمَّتي إلى يومِ القيامةِ».
إذن، إذا كنَّا نرغب في تحقيق تعايش إنساني وسلام عالمي بين الناس مع اختلاف طوائفهم وخلفياتهم، يتعيَّن علينا أن نسعى لتحقيقه أولًا مع أنفسنا وداخل دوائرنا الصغيرة.
ينتشر الخير ويعمُّ السلام إذا بدأنا بتغيير أنفسنا أولًا «حاسِبوا أنفسَكم قبل أن تحاسبوا»، وإذا تصالحنا مع أنفسنا رغم تحديات الحياة وإحباطاتها، وإذا سامحنا مَن أساء إلينا لوجه الله {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله}، واختيارنا العفو لأنه من شِيَمِ الكرام، ولم نحمل في قلوبنا ضغينة أو غلًّا لأحد، وإذا رأينا الله في كل أمورنا فنسير خفافًا لا لنا ولا علينا، فلا نؤذي ولا نُؤذَى، ولا نَجرحُ ولا نُجرَح، ولا نشقى بأحدٍ ولا يشقى بنا أحد، إذا اختُبرنا حقًّا في مبادئنا واستطعنا ألا ننتصرَ للنفس والهوى، إذا استطعنا أن نصل إلى الرِّضا والسلام الداخلي، وتسلَّحنا بالأمل والعمل ومكارم الأخلاق، سينعكس ذلك بالإيجاب والخير والسلام على من حولنا والمجتمعات أجمع.
*عضو منتدى شباب صنَّاع السلام