هل فعلًا لحظة تاريخية؟!!

مارس 19, 2023 01:03:م

بقلم ياسمين عبيد*

 

ما هذه المبالغة؟ ألا ترينَ أنك تبالغين في وصفك للحدث؟” أرسلت إليَّ إحدى صديقاتي هذه الرسالة بعدما رفعت مقطعًا مصورًا لي أثناء حضوري الجلسة الختامية لملتقى البحرين للحوار “الشرق والغرب من أجل التعايش الإنساني” شاكرةً المولى عز وجل أن أنعم عليَّ بوجودي في هذا الحدث، وحضوري هذه اللحظة، واصفة إياها بأنها “لحظة تاريخية سيذكرها العالم في المستقبل وستشهد لها الأجيال القادمة” وهذه هي الجملة التي علَّقت عليها صديقتي، لهذا قرَّرت أن أخصصَ مقالي عن مشاركتي ضمن وفد منتدى شباب صناع السلام لحضور هذا الملتقى للإجابة عن سؤالها: هل أرى أنني أبالغ في وصفي للحدث بأنه لحظة تاريخيَّة؟

بالعودة إلى الوراء -ما قبل مشاركتي في منتدى شباب صنَّاع السلام ببريطانيا ٢٠١٨- لم يكن لديَّ تصور عن كيفية التعايش مع ثقافات أخرى، نعم لم أكن عنصريةً تجاه من يختلف معي في السمات، لكنني لم أدرك أنَّ هذا ليس كافيًا لبناء جسور من الاحترام والود تكفينا العديدَ من الشرور والصراعات التي قد تحدث بسبب اختلافنا في المستقبل.
كثيرٌ من الأشخاص يعتقدون أننا ينبغي أن نبتعد عن أولئك الذين لا يشبهوننا، ويعلِّلون ذلك بحماية أنفسنا من التأثر بثقافات مختلفة قد تغيِّر من أنماط حياتنا، فتوغل ذلك الاعتقاد في تفكيرهم لدرجة أنهم بدأوا ينبذون كل مَن يختلف عنهم حتى في أبسط الأشياء؛ لذا فمن وجهة نظرهم، إذا كنت لا تأكل السوشي مثلًا وتعتقد أنه من الخطأ أن تتناوله، فلا ينبغي لك أن تجلسَ على مائدة واحدة مع مَن يأكله؛ لأن هذا قد يؤثر سلبًا على اعتقادك! لكن ألا يمكن أن أحظى بطبق المكرونة الإيطالية ويحظى غيري بطبق السوشي الياباني ونجلس معًا على طاولة واحدة نتحدَّث عن أمور مشتركة أخرى غير ذوقَيْنا المختلفيْنِ في الطعام؟ بل ألا يمكن أن يتعرَّف كلانا على ملامح الطبقين ومكوناتِه فيحترم كل منا رغبة الآخر في اعتقاده فيما يتعلق بطبقه المفضل؟ أردت أن أقرِّبَ لصديقتي ما يَعنِيه هذا الحدث فذكرتُ تلك القصة، ولكنَّ الأمر أعظم من ذلك بكثيرٍ؛ في اليوم الأول من ملتقى البحرين للحوار، كنت على مقربةٍ من أكثر من ٢٠٠ من رموز الأديان من مختلف أنحاء العالم، بالتأكيد لم يسعفني الوقت للتعرف على كل هذه الشخصيات، لكن مجرد رؤيتهم معًا يتعارفون ويتصافحون ويتحدثون عن أبرز القضايا التي تهم البشرية، هذا فقط كافٍ بالنسبة إليَّ ليبعث في نفسي الطمأنينة والسلام والأمل بمستقبل أفضل يخلو من الصراعات والأزمات.

في اليوم الثاني من الملتقى اجتمعتْ هذه الشخصيات مرة أخرى، وهذه المرة للاستماع معًا إلى أكبر رمزين دينيين في العالم؛ فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف، رئيس مجلس حكماء المسلمين الأستاذ الدكتور أحمد الطيب، وقداسة بابا الفاتيكان بابا الكنيسة الكاثوليكيَّة البابا فرنسيس، وهما يكملان مسيرةَ الأخوة الإنسانية التي بدآها في أبوظبي عام ٢٠١٩، بتوقيع وثيقة الأخوة الإنسانية، وكعادتهما حملت كلماتُهما كثيرًا من الحكمة في تحليل الأمور، والرؤية الطموحة في الدعوة إلى السلام والاستقرار، والبصيرة النَّافذة في الرد على الشبهات التي تعوق طريق التعايش والأخوَّة الإنسانية، والوصايا الملزمة التي إن طبَّقها العالم فسينعم بالاستقرار المبني على الاحترام المتبادل بين الجميع.
لذا، اسمحوا لي بعد هذا التَّوضيح أن أرد على سؤال صديقتي “ألا ترين أنك تبالغينَ في وصفك للحدث؟” لأقول: في عالم تسودُه الصراعات، وتسيطر عليه الحروب، ويعاني فيه الملايين من ويلاتها، سواءُ بشكل مباشر أم غير مباشر، أن ترى أكثر من ٢٠٠ من رموز الأديان حول العالم يجتمعون في مكانٍ واحدٍ ليوحدوا جهودهم لوضع حلول لإيقاف تلك الحروب أو على الأقل التقليل منها، فإنني بالتأكيد لا أبالغ بوصفي لهذا الحدث بأنه تاريخي، وعلى سطح كوكبٍ يصارع من أجل البقاء على قيد الحياة بسبب ممارساتٍ بشريةٍ خاطئةٍ، أن تجدي هذا الموضوع مطروحًا على طاولة نقاش رجال الدين ليكون موضوعًا مشتركًا يقدِّم فيه كل دين أطروحته للوقوف معًا لمواجهة أزمة التغيرات المناخية، فإنني أيضًا لا أبالغ بوصفي لهذه الجهود بأنها تاريخيَّة، وعلى الساحة الدولية وبعد قطيعة استمرت لسنواتٍ بين الأزهر والفاتيكان بسبب تصريحات البابا السابق التي أساءتْ للإسلام، أن تري فضيلة الإمام مع قداسة البابا يدًا بيد يؤسِّسان ويبنيان أخوَّة إنسانية حقيقية تعطي نموذجًا يُحتذَى به لشباب اليوم وللأجيال القادمة، وأن يشهدَ العالم اجتماعهما للمرة التاسعة على أرض مملكة البحرين في الزيارة البابوية الأولى للمملكة، فإنني -وبلا أي شك يا صديقتي- لا أبالغ بوصفي لهذه اللحظة بأنها لحظة تاريخيَّة ستشهد لها الأجيال القادمة؛ ‏لذا وبالنيابة عن كل محبِّي السلام في العالم، فإنه لا يسعني إلا أن أوجه الشكر لكل القائمين على تنظيمِ ملتقى البحرين للحوار “الشرق والغرب من أجل التعايش الإنساني”، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ومجلس حكماء المسلمين ومركز الملك حمد العالمي للتعايش السلمي، بارك الله في مجهوداتهم ووفقهم الله لما فيه الخير للبشرية.

*عضو منتدى شباب صناع السلام .